محمد أحمد العسيري عضو جديد
عدد المساهمات : 7 تاريخ التسجيل : 15/09/2010
| موضوع: حفار القبور الذي رحل ..مقال الثلاثاء سبتمبر 21, 2010 8:56 pm | |
| دعوني أروي لكم اليوم قصة حفار القبور الذي كان يستر الأبدان بتراب نحن منه وهو منا ، ذلك الشيخ النحيل بمئزره الأبيض وعمامته التي لا تفارق رأسه . لم أشاهد غيره يدفن موتانا كرامة لهم حتى أنه من النادر سماع من يدعوه باسمه فلقد ارتبط اسمه بالمقبرة فهو حارسها وحفار قبورها . كان ينسل للقبر بخفة واجتهاد يزيل التراب ( بمسحاته ) ويمهد النتوءات المكومة هنا وهناك , وما أن يصل الميت حتى يهب لاستقباله وكأنه من أقرب المقربين له .. يحمله بحرص وما أن يدنو من حافة القبر حتى يسبق الجميع ليلقفه من ذويه ، يدسه في اللحد وهو يتمتم بأدعية غير مسموعة ويكمل الدفن بكل دقة ومهارة. الغريب في الأمر أن ملامحه لا تتبدل .. بينما الحضور تجد بينهم الباكي والمتباكي ، واللاهي في أمور خارج أسوار المقبرة ، وآخرون يقفون بعيدا عن تطاير التراب وهم يحسبون ما تركه الراحل من ثروة قد يطالهم منها نصيب. حفار القبور بوجهه الجامد يخرج من قبر لينزل آخر بنفس الملامح ، لا يلبس أقنعة زائفة يرقص بها على مشاعر البشر ، ولا يخطف من أفواه البؤساء ضحكاتهم . عندما ينتهي من ردم القبر ورش الماء على تربته لتثبيتها يتقدم بخطواته المتسارعة يمد يده المعفرة يصافح الكل مقدما واجب العزاء وينصرف بهدوء . لا يلبث أن تخبئه طيات حفرة أخرى يزينها لاستقبال زائر سيطول به المقام ، يلملم رزقه من بين الغبار والعرق الذي يسبقه ليدخل عينيه فلا يستطيع مسحه لأن يداه مشغولتان بجسد بارد لا يقوى العودة للحياة . يقولون : إنه كان يحفر لنفسه قبرا كل يوم استعدادا لموعد الرحيل ، ولكنه سرعان ما يهبه لغيره ويسارع لحفر آخر . باتت علاقته بالموت أقوى من البشر فهو الوحيد الذي يعرف معنى دناءة الدنيا لذلك فضل العيش في هدوء . كنتُ أنظر له من خلف المتجمهرين على القبر ، أطيل التأمل في تقاسيم وجهه الأسمر فيدهشني أنه لا ينظر للوجوه وكأنه يريد القول : من التراب وإلى التراب . كم تمنيت لو انه ينظر لي حتى أتأكد ما إن كان يبكي مثلنا بكاء جافا . ربما كان يبكي وحيدا بعد رحيل الحشود .. بكاء يستدعي حرقة الليل والوحدة والفراق . ومضت السنوات ودفن حفار الضعفاء والمساكين في قبر كبقية القبور ، لا أحد يعرف أيهم قبره ، لا أحد يعرف من ذر التراب عليه ، اختفى كما تختفي كل مواسم السعادة ولم نعد نسمع صوت ترتيله وتسبيحه . بغيابه ظهر من يستهويه حفر القبور .. أناس ينهشون القلوب ، ويبيعون البؤس بثمن غالِ وعند المساء يحتفلون على أكوام أجسادنا الباردة وهم يتوعدون بالمزيد ، وعندما يذاع الخبر يحضرون بوجوه مسودة يلطمون الخدود ، ويذرفون دموعا مكبلة بالزيف والخديعة . حفار القبور الذي كان لم يقتل أحدا، ولم يسلب روحا من جسدها وكذلك لم يحفر قبرا ليلقِ بداخله بقايا أرواح الكادحين في الأرض .. شتان بين ذلك الجسد النحيل وبين تجار الظلام الذي يتاجرون بضعف المواطن وهمومه .. يسرقون ما تبقى له من كرامة يوما بعد يوم . يدفنون روحه فلا يجد طعما للسعادة ولا لونا غير لون العتمة يهوي به داخل حفرة نتنه تخنقه بلا رحمة .. وبعد فُرجة ممتعة يقفون وهم يغطون أنوفهم يذرون على هامته التراب بأقدامهم ويديرون له ظهورهم بلا دعاء وبلا تراتيل . | |
|